المرض لدى الطيور
إنفلونزا الطيور مرض معد تحدثه لدى الطيور سلالات الإنفلونزا من النمط (A). وهذا المرض يحدث في جميع أرجاء العالم. وفي حين يُعتقد أنّ لجميع الطيور حساسية حيال العدوى الناجمة عن فيروسات إنفلونزا الطيور، فإنّ الكثير من أنواع الطيور البرّية يحمل تلك الفيروسات دون إظهار أيّة علامات مرضية.
وتظهر على أنواع الطيور الأخرى، بما في ذلك الدواجن، علامات المرض عند إصابتها بفيروسات إنفلونزا الطيور. وتتسبّب تلك الفيروسات، لدى الدواجن، في إحداث شكلين من المرض مختلفين اختلافاً واضحاً، أحدهما شائع وخفيف والآخر نادر وفتاك بدرجة عالية. ويمكن أن تقتصر العلامات، في الشكل الخفيف، على انتفاش الريش أو انخفاض معدل وضع البيض أو تدهور خفيف في الجهاز التنفسي. ويمكن عدم الكشف عن الفاشيات بسبب خفّتها، إلاّ إذا وُجدت آليات تمكّن من اختبار الفيروسات بشكل منتظم.
أمّا الشكل الثاني الشديد الإمراض والأقلّ شيوعاً بكثير، فمن الصعب إغفاله. ويتسّم هذا الشكل من المرض، الذي اكتُشف لأول مرة في إيطاليا في عام 1878، بظهور أعراض وخيمة بشكل مفاجئ وسرعة الإعداء ومعدل إماتة قد يقارب نسبة 100% في غضون 48 ساعة. ولا يقتصر الفيروس، في هذا الشكل، على إصابة السبيل التنفسي، كما يحدث في الشكل الخفيف، بل يغزو أيضاً عدة أعضاء وأنسجة. واكتسب هذا الشكل اسم "إيبولا الدجاج" نظراً للنزيف الداخلي الكبير الذي ينجم عنه.
ومن المعروف أنّ جميع الأنماط الفرعية لفيروسات الإنفلونزا (16 نمطاً من الهيماغلوتينين و9 أنماط من النورامينيداز) تصيب الطيور المائية البرّية، ممّا يوفر مستودعاً كبيراً لتلك الفيروسات المنتشرة بشكل متواصل بين مجموعات الطيور. ويمكّن الفحص الروتيني، في جميع الحالات تقريباً، من الكشف عن بعض من فيروسات الإنفلونزا لدى الطيور البرّية، ذلك أنّ الغالبية الكبرى من تلك الفيروسات لا تسبّب أي أضرار تُذكر.
وجميع فاشيات الشكل الشديد الإمراض من إنفلونزا الطيور تسبّب فيها، حتى الآن، النمطان الفيروسيان الفرعيان (H5) و (H7). وتتسم الفيروسات الشديدة الإمراض "برمز" أو توقيع خاص، وهو عبارة عن مجموعة من الأحماض الأمينية المعيّنة في مكان انشطار الهيماغلوتينين، يمكّن من التمييز بينها وبين فيروسات إنفلونزا الطيور الأخرى ويمنحها فوعتها الاستثنائية.
والسلالات الفيروسية من النمطين الفرعيين (H5) و (H7) ليست كلها شديدة الإمراض، ولكن يُعتقد أنّ معظمها كفيل باكتساب تلك القدرة. فقد بيّنت الأبحاث التي أُجريت مؤخراً أنّ بإمكان الفيروسات القليلة الإمراض من النمطين (H5) و (H7)، بعد الانتشار لفترات قصيرة بين الدواجن في بعض الأحيان، أن تتحوّل إلى فيروسات شديدة الإمراض. وطالما أوحت بيّنات ظرفية كثيرة بأنّ الطيور المائية البرّية تنقل فيروسات إنفلونزا الطيور، في شكلها القليل الإمراض، إلى أسراب الدواجن، ولكنّها لا تحمل الفيروسات الشديدة الإمراض أو تنقلها بشكل مباشر إلى تلك الدواجن. غير أنّ دور تلك الطيور قد يكون شهد تغيّراً في الآونة الأخيرة. فقد بات من المرجّح حالياً أن بعض الأنواع من الطيور المائية المهاجرة تحمل الفيروس H5N1 في شكله الشديد الإمراض وتنقله إلى مناطق جغرافية جديدة تقع على طول مسارات هجرتها.
ويمكن لفيروسات إنفلونزا الطيور، فضلاً عن كونها شديدة الإعداء بين الدواجن، الانتقال بسرعة بين المزارع عن طريق حركة الطيور الحيّة والأشخاص (خصوصاً عندما تكون الأحذية والألبسة الأخرى ملوّثة بها) والعربات والمعدات والأغذية والأقفاص الملوّثة. ويمكن أن تظلّ الفيروسات الشديدة الإمراض موجودة في البيئة لفترات طويلة، وبخاصة عندما تكون درجات الحرارة منخفضة. فيمكن للفيروس H5N1، على سبيل المثال، أن يظلّ في ذرق الطيور لمدة لا تقلّ عن 35 يوماً إذا كانت درجة الحرارة منخفضة (4 درجات مئوية). وتبيّن، في عيّنات ذرقية، أنّ تلك الفترة تنزل إلى ستة أيام إذا بلغت درجة الحرارة مستويات أعلى بكثير (37 درجة مئوية).
وتتمثّل أهمّ تدابير المكافحة، فيما يخص الشكل الشديد الإمراض، في التعجيل بإعدام جميع الطيور الموبوءة أو المعرّضة والتخلّص من جثثها بطرق سليمة وفرض الحجر الصحي وتطهير المزارع بشكل دقيق وتطبيق تدابير صارمة لضمان الصحة أو "السلامة البيولوجية". ومن التدابير الهامة الأخرى فرض قيود على حركة الدواجن الحيّة، داخل البلدان وفيما بينها على حد سواء. ومن الأسهل، لوجيستياً، تطبيق تدابير المكافحة الموصى بها على مزارع تجارية كبيرة تُربّى في داخلها أعداد كبيرة من الطيور، في ظلّ ظروف صحية صارمة في كثير من الأحيان. غير أنّ مكافحة المرض تصعب كثيراً عندما تكون غالبية الدواجن في أحواش الدجاج المشتّتة في الأرياف وأرباض المدن.
وعندما تفشل عمليات إعدام الدواجن، التي تُعد أول تدبير دفاعي لاحتواء الفاشية، أو يتعذّر القيام بها يمكن اللجوء إلى تطعيم الدواجن في المناطق المعرّضة لمخاطر عالية كتدبير طارئ إضافي، شريطة استخدام لقاحات مضمونة الجودة واتّباع
توصيات المنظمة العالمية لصحة الحيوان بشكل صارم. وقد يسهم استخدام لقاحات متدنية الجودة أو لقاحات لا تتناسب كثيراً مع السلالة الفيروسية المنتشرة في تعجيل طفرة الفيروس. وقد تشكّل اللقاحات الحيوانية المتدنية الجودة خطراً على صحة البشر أيضاً، نظراً لاحتمال تمكينها الطيور الموبوءة من إفراز الفيروس قبل أن تظهر علامات المرض عليها.
وتتسم الفاشيات التي تحدث بين أسراب الدواجن في أحواش الدجاج المنزلية، فضلاً عن صعوبة السيطرة عليها، بارتفاع مخاطر تعرّض البشر للفيروس وإصابتهم بالعدوى. وغالباً ما تُترك تلك الدواجن طليقة لترعى بحرية، فتختلط بالطيور المهاجرة أو تتقاسم نقاط المياه معها. وتتيح تلك الظروف الكثير من فرص تعرّض البشر للفيروس، وبخاصة عندما تدخل الدواجن البيوت أو تُترك داخلها أثناء تدهور الطقس أو عندما تجوب أماكن لعب الأطفال أو أماكن نومهم. والفقر يزيد من حدة المشكلة.
فكثيراً ما تنزع الأسر إلى استهلاك الدواجن عندما تنفق أو يصيبها المرض، ذلك أنّه لا يمكن لتلك الأسر تضييع المصدر الأوّل لطعامها ودخلها. وتنطوي تلك الممارسة على مخاطر عالية تكمن في التعرّض للفيروس أثناء ذبح الدواجن ونزع ريشها وتقطيعها وتحضير لحمها للطبخ، ولكن من الصعب تغييرها. وعلاوة على ذلك، فإنّ الأسر التي تربّي الدواجن في أحواش الدجاج المنزلية قد تنزع، نظراً لشيوع حالات النفوق أو المرض بين الدواجن وبخاصة لدى تدهور الأحوال الجوية، إلى عدم تفسير تلك الحالات على أنّها ناجمة عن إنفلونزا الطيور وإلى عدم إبلاغ السلطات بها. وقد يساعد هذا السلوك على إدراك الأسباب الكامنة وراء عدم الكشف، طوال شهور عدة، عن الفاشيات التي حدثت في بعض المناطق الريفية. ويدفع استمرار السلطات في التغاضي عن تعويض المزارعين عن الخسائر المتكبّدة جرّاء إعدام دواجنهم بأولئك المزارعين إلى عدم الإبلاغ تلقائياً بحدوث الفاشيات وقد يدفع مربّيي الدواجن إلى إخفاء طيورهم أثناء عمليات الإعدام.
الدور الذي تؤديه الطيور المهاجرة :
تبيّن، لأوّل مرّة خلال عام 2005، وجود مصدر كبير آخر من مصادر انتشار الفيروس بين الطيور على الصعيد العالمي، غير أنّ الغموض لا يزال يحيط به. وقد ازداد اقتناع العلماء بأنّ بعض الطيور المائية المهاجرة تحمل الآن، على مسافات طويلة، الفيروس H5N1 في شكله الشديد الإمراض وتنقله إلى أسراب الدواجن الموجودة في مناطق تقع على طول مسارات هجرتها. وإذا تأكّد، علمياً، هذا الدور الجديد الذي تؤديه الطيور المهاجرة، فإنّ ذلك سيشكّل تحوّلاً في العلاقة المستقرّة القائمة حتى الآن بين الفيروس H5N1 ومستودعه الطبيعي المتمثّل في الطيور البرّية.
وبدأت البيّنات الداعمة لهذا الدور الجديد تظهر في منتصف عام 2005 وتعزّزت منذ ذلك التاريخ. فقد شهدت محمية بحيرة كينغاي الطبيعية الواقعة في وسط الصين، في أواخر نيسان/أبريل 2005، نفوق أكثر من 000 6 طير من الطيور المهاجرة جرّاء إصابتها بالفيروس H5N1 الشديد الإمراض، ممّا يشكّل ظاهرة غير مألوفة وربما غير مسبوقة. ولم تتعرّض الطيور البرّية، قبل تلك الحادثة، لحالات نفوق جرّاء فيروسات إنفلونزا الطيور إلاّ في حالات نادرة تعلّقت ببعض الطيور التي عادة ما وُجدت نافقة قرب سرب من الدواجن المصابة بفاشية. وخلصت الدراسات العلمية التي قارنت بين الفيروسات المسبّبة لعدة فاشيات بين الطيور إلى أنّ الفيروسات المعزولة من آخر البلدان التي أصابها الوباء، والتي تقع جميعاً على طول مسارات هجرة الطيور، مطابقة تقريباً للفيروسات المعزولة من الطيور المهاجرة التي نفقت في بحيرة كينغاي، شأنها شأن الفيروسين اللّذين تم عزلهما من الحالتين البشريتين الأوليين اللّتين حدثتا في تركيا وأدّيتا إلى الوفاة.
البلدان المتضرّرة من الفاشيات التي تصيب الطيور :
إنّ فاشيات إنفلونزا الطيور الناجمة عن الفيروس H5N1 الشديد الإمراض والتي بدأت في جنوب شرق آسيا في منتصف عام 2003 وانتشرت الآن إلى بعض المناطق الأوروبية تُعد أكبر وأوخم الفاشيات المُسجّلة حتى الآن. وقد أبلغت تسعة بلدان آسيوية، حتى الآن، عن حدوث فاشيات فيها، وتلك البلدان هي (حسب تاريخ الإبلاغ): جمهورية كوريا وفييت نام واليابان وتايلند وكمبوديا وجمهورية لاو الديمقراطية الشعبية وإندونيسيا والصين وماليزيا. ومن أصل تلك البلدان تمكّنت اليابان وجمهورية كوريا وماليزيا من السيطرة على الفاشيات التي أصابت أسراب الدواجن فيها، وهي تُعتبر الآن خالية من المرض. أمّا في المناطق الآسيوية الأخرى، فقد أصبح الفيروس يتوطن عدة من البلدان التي ألمّ بها.
وفي أواخر تموز/يوليو 2005، انتشر الفيروس جغرافياً إلى خارج منطقته الأصلية في آسيا وأصاب دواجن وطيوراً برّية في الاتحاد الروسي وبعض المناطق المحاذية من كازاخستان. وفي الفترة ذاتها تقريباً، أبلغت منغوليا عن اكتشاف الفيروس H5N1 في طيور مهاجرة. وأُبلغ، في تشرين الأول/أكتوبر 2005، عن وجود ذلك الفيروس في الدواجن في تركيا ورومانيا وكرواتيا. وفي مطلع كانون الأول/ديسمبر، أبلغت أوكرانيا عن حدوث أوّل فاشية تصيب الطيور فيها. وتم اكتشاف معظم تلك الفاشيات والإبلاغ عنها على وجه السرعة. غير أنّه من المتوقّع أن تتّسع رقعة انتشار الفيروس على طول مسارات الهجرة التي تسلكها الطيور المائية البرّية، علماً بأنّ هجرة الطيور ظاهرة يتكرّر حدوثها. وعليه فقد تواجه البلدان الواقعة على طول مسارات الطيور التي تهاجر انطلاقاً من آسيا الوسطى مخاطر مستمرة تكمن في وفود أو عودة وفود الفيروس للانتشار بين أسراب دواجنها المنزلية.
وكانت فاشيات إنفلونزا الطيور الشديدة الإمراض تُعتبر، قبل الوصول إلى الوضع الراهن، ظواهر نادرة. فلم يُسجّل، باستثناء الفاشيات الحالية التي تسبّب فيها الفيروس H5N1، إلاّ 24 فاشية من تلك الفاشيات في جميع أنحاء العالم منذ عام 1959. وحدثت 14 فاشية من مجموع تلك الفاشيات في السنوات العشر الماضية. واتّسمت غالبية تلك الفاشيات بانتشار جغرافي محدود وبقي بعض منها محصوراً في مزرعة واحدة أو سرب واحد من الدواجن ولم تنتشر سوى واحدة منها على الصعيد الدولي. وكانت جميع الفاشيات الكبرى مكلّفة بالنسبة للقطاع الزراعي وكان من الصعب السيطرة عليها.
المرض لدى البشر وبائية المرض وتسلسله التاريخي. تتسم فيروسات إنفلونزا الطيور بارتباطها الوثيق مع أنواع حيوانية معيّنة، وذلك يعني أنّ الفيروسات التي تصيب نوعاً محدّداً من أنواع الحيوانات (البشر، وبعض الأنواع من الطيور، والخنازير، والخيول، والفقمات) تظلّ "مرتبطة" بذلك النوع ولا تنقل العدوى إلى غيره من الأنواع الحيوانية إلاّ في حالات نادرة. ولم يثبت، منذ عام 1959، حدوث إصابات بشرية بالعدوى الناجمة عن فيروس إنفلونزا الطيور إلاّ في عشر حالات. ومن المعروف أنّ من أصل مئات السلالات الفيروسية من النمط (A)، تسبّبت أربع سلالات فقط في حدوث حالات بشرية، وتلك السلالات هي: H5N1 و H7N3 و H7N7 و H9N2. وأدّت العدوى بتلك الفيروسات، عموماً، إلى حدوث أعراض خفيفة ومرض قليل الوخامة، باستثناء فيروس واحد هو: الفيروس H5N1 الشديد الإمراض.
ويثير الفيروس H5N1، من أصل جميع فيروسات الإنفلونزا المنتشرة بين الطيور، أكبر المخاوف بالنسبة لصحة البشر، وذلك لسببين رئيسيين يتمثّل أوّلهما في تسبّب ذلك الفيروس في حدوث أكبر عدد من الحالات المرضية الوخيمة والوفيات لدى البشر. فقد تمكّن من اختراق الحواجز القائمة بين الأنواع وإصابة البشر في ما لا يقلّ عن ثلاث مناسبات في الأعوام الأخيرة: في هونغ كونغ في عام 1997 (18 حالة أدّت ست حالات منها إلى الوفاة) ومرّة ثانية في هونغ كونغ في عام 2003 (حالتان أدّت إحداهما إلى الوفاة) وفي الفاشيات الراهنة التي بدأت في كانون الأول/ديسمبر 2003 وتم اكتشافها للمرّة الأولى في كانون الثاني/يناير 2004.
أمّا الأثر المحتمل الثاني على صحة البشر، الذي يثير مخاوف أكبر بكثير، فيتمثّل في احتمال تمكّن الفيروس H5N1، إذا ما أُتيحت له الظروف المواتية، من تطوير السمات التي تلزمه لإحداث جائحة جديدة من جوائح الإنفلونزا. فقد استوفى الفيروس جميع الشروط لإحداث جائحة إلاّ شرطاً واحداً: القدرة على الانتشار بين البشر على نحو فعال ومستدام. وعلى الرغم من أنّ الفيروس H5N1 هو الذي يثير أكبر المخاوف في الوقت الحاضر، فإنّه لا يمكن استبعاد احتمال حدوث جائحة بسبب فيروسات أخرى من فيروسات إنفلونزا الطيور، التي يُعرف أنّها تصيب البشر.
ويمكن للفيروس تحسين قدرته على الانتقال بين البشر من خلال آليتين اثنتين. وتتمثّل الآلية الأولى في ظاهرة "الاندماج" التي يتم فيها تبادل مواد جينية بين الفيروس الذي يصيب البشر والفيروس الذي يصيب الطيور، وذلك خلال حالات عدوى متزامنة لدى الإنسان أو الخنزير. ويمكن أن تسفر تلك الظاهرة عن ظهور فيروس جائح له القدرة التامة على الانتقال بين البشر. ومن بوادر ظهوره تزايد مفاجئ في عدد الحالات البشرية وانتشارها بشكل مذهل.
أمّا الآلية الثانية فهي "الطفرة التكيّفية" التي تُعد عملية أكثر تدرّجاً والتي تتزايد عن طريقها قدرة الفيروس على الاتصال بالخلايا البشرية مع توالي الإصابات. ومن شأن الطفرة التكيّفية، التي وُصفت في أول الأمر بمجموعات من حالات بشرية توحي بانتقال العدوى فيما بينها، إعطاء العالم بعض الوقت لاتخاذ إجراءات مضادة.
وتزامن حدوث حالات العدوى البشرية الثماني عشرة في هونغ كونغ في عام 1997، خلال أوّل فاشية موثّقة تسبّب فيها الفيروس H5N1 بين البشر، مع وقوع إحدى فاشيات إنفلونزا الطيور الشديدة الإمراض في مزارع الدواجن وأسواق الطيور الحيّة جرّاء فيروس مماثل تقريباً. وأثبتت الدراسات الموسّعة التي أُجريت على الحالات البشرية أنّ مصدر العدوى كان التعامل المباشر مع دواجن مريضة. ولم تعثر الدراسات التي أُجريت على أفراد الأسر والأشخاص الذين خالطوا المصابين والعاملين الصحيين الذين قدّموا لهم الرعاية والقائمين على إعدام الدواجن إلاّ على بيّنات محدودة جداً، تكاد تكون منعدمة، تشير إلى انتشار الفيروس من شخص لآخر. وتوقّف حدوث حالات العدوى البشرية عقب القيام، على وجه السرعة (خلال ثلاثة أيام)، بإعدام جميع دواجن هونغ كونغ، التي كانت تُقدّر بنحو 5ر1 مليون طير. ويرى بعض الخبراء أنّ هذا الإجراء الصارم مكّن ربما من توقّي جائحة من جوائج الإنفلونزا.
وتشير جميع البيّنات المتوافرة حتى الآن إلى أنّ التعامل عن كثب مع طيور نافقة أو مريضة هو المصدر الرئيسي لإصابة البشر بالعدوى الناجمة عن الفيروس H5N1. ومن بين الممارسات التي تنطوي على مخاطر خاصة ذبح الطيور الموبوءة ونزع ريشها وتقطيعها وتحضيرها للاستهلاك. ويُعتقد أنّ اكتساب العدوى تم، في بعض الحالات، عن طريق التعرّض لذرق الدجاج في أماكن تجوبها الدواجن الطليقة واعتاد الأطفال اللعب فيها. من بين مصادر العدوى المحتملة الأخرى السباحة في مساحات المياه التي تُطرح فيها جثث طيور موبوءة أو التي يُحتمل احتواءها ذرق طيور بطّ موبوءة أو غيرها من الطيور. ولم تتمكّن التحرّيات، في بعض الحالات، الكشف عن مصدر منطقي للتعرّض، ممّا يوحي بوجود عامل بيئي مجهول حتى الآن يكون قد أسهم في حدوث عدد صغير من الحالات. ومن بين التفاسير المقترحة الدور المحتمل الذي تؤديه الطيور التي تحوم حول البيوت، مثل طيور الحمام، أو استخدام ذرق الطيور غير المعالج كسماد زراعي.
وتظلّ إنفلونزا الطيور، في الوقت الراهن، مرضاً يصيب الطيور بالدرجة الأولى. ولا تزال الحواجز القائمة بين الأنواع تؤدي دوراً أساسياً، فالفيروس لا يزال عاجزاً عن الانتقال بسهولة من الطيور إلى البشر. وعلى الرغم من إصابة عشرات الملايين من الدواجن بالعدوى في مناطق جغرافية واسعة منذ منتصف عام 2003، فإنّ التحاليل المختبرية لم تؤكّد حدوث سوى أقلّ من 200 حالة بشرية. ولأسباب مجهولة، حدثت معظم الحالات في أسر تسكن في الأرياف أو في أرباض المدن، حيث تُربّى أسراب صغيرة من الدواجن في البيوت. ولأسباب مجهولة أيضاً، لم تُكتشف إلاّ حالات قليلة جداً لدى الفئات التي كان يُحتمل أصلاً تعرّضها لمخاطر عالية، مثل العاملين في قطاع تجارة الدواجن والعاملين في أسواق الدواجن الحيّة والقائمين على إعدام الدواجن والبياطرة والعاملين الصحيين الذي يقدمون الرعاية إلى المرضى دون ارتداء معدات الحماية الشخصية.
كما لا يوجد تفسير لتركّز الحالات بشكل محيّر لدى الأطفال والشباب الذين كانوا يتمتعون أصلاً بصحة جيدة. ولا بد من إجراء بحوث فورية من أجل التعمّق في تحديد الظروف والممارسات التي تؤدّي إلى التعرّض للعدوى، فضلاً عن العوامل المناعية والوراثية المحتملة التي من شأنها زيادة احتمال ذلك التعرّض.
تقييم الحالات المحتملة :
أفادت عمليات تحرّي معظم الحالات البشرية المؤكّدة في الآونة الأخيرة، في الصين وإندونيسيا وتركيا، أنّ مصدر التعرّض للعدوى يكمن، على الأرجح، في التعامل المباشر مع الطيور الموبوءة. وينبغي، لدى تقييم الحالات المحتملة، توخّي المزيد من الاشتباه السريري فيما يخص الأشخاص الذين تظهر عليهم علامات مرضية تشبه أعراض الإنفلونزا، وبخاصة الحمى وتدهور السبيل التنفسي السفلي، والذين لهم خلفية تعامل مع طيور عن كثب في منطقة ثبت فيها حدوث فاشيات من فاشيات إنفلونزا الطيور جرّاء الفيروس H5N1 الشديد الإمراض. والسبب الثاني الذي يؤدّي إلى إصابة البشر بالعدوى، رغم أنّه أقلّ شيوعاً، التعرّض لبيئة قد تكون ملوّثة بذرق طيور موبوءة. والحالات البشرية المُسجّلة حتى الآن ليست ناجمة كلها عن التعرّض لدواجن نافقة أو دواجن تظهر عليها علامات المرض. وأظهرت الدراسات المنشورة في عام 2005 أن طيور البطّ الداجن تفرز كميات كبيرة من الفيروس الشديد الإمراض دون أن تظهر عليها علامات المرض. ولا يمثّل استهلاك الدواجن في أحد البلدان الموبوءة عاملاً من عوامل الاختطار، شريطة أن تكون تلك الدواجن مطهية بطريقة جيدة وألاّ يكون مستهلكها شارك في إعدادها. وطالما لم يثبت انتقال الفيروس بين البشر على نحو فعال في أي من مناطق العالم، فإنّ مجرّد السفر إلى بلد يشهد حدوث فاشيات بين الدواجن أو حالات بشرية متفرّقة لا يزيد من مخاطر التعرّض للعدوى، شريطة ألاّ يقوم المسافر بزيارة أسواق الدواجن الحيّة أو "التي لم يمض على ذبحها وقت طويل"، أو المزارع أو غير ذلك من البيئات التي تكون قد تعرّضت لطيور مريضة.
السمات السريرية(1) :
يتبّع المرض الناجم عن الفيروس H5N1 مساراً سريرياً يتسم بعدوانية غير مألوفة، فهو يؤدي إلى تدهور حالة المريض الصحية بسرعة وإلى حدوث نسبة عالية من الوفيات. وعلى غرار الأمراض المستجدة، ما زال يُجهل الكثير عن مرض الإنفلونزا الذي يحدثه الفيروس H5N1 لدى البشر. وبدأت المعطيات السريرية المستقاة من الحالات التي حدثت في عام 1997 ومن الفاشية الراهنة بإتاحة صورة عن سمات هذا المرض السريرية، ولكن لا يزال الكثير ممّا يتعيّن تعلّمه. وهناك، علاوة على ذلك، احتمال بأن تتغيّر تلك الصورة نظراً لنزوع ذلك الفيروس إلى التحوّل بشكل سريع وغير متوقّع.
وقد تكون فترة حضانة الفيروس H5N1 أطول من تلك الخاصة بالإنفلونزا الموسمية العادية التي تتراوح بين يومين وثلاثة أيام. وتشير المعطيات الراهنة بشأن العدوى الناجمة عن الفيروس H5N1 إلى أنّ فترة حضانة ذلك الفيروس تتراوح بين يومين وثمانية أيام، وقد تصل أحياناً إلى 17 يوماً. غير أنّ احتمال تعدّد أشكال التعرّض للفيروس يزيد من صعوبة تحديد فترة حضانته بدقة. وتوصي منظمة الصحة العالمية، حالياً، باعتماد فترة حضانة مدّتها 7 أيام لدى الاضطلاع بتحرّيات ميدانية ورصد مخالطي المرضى.
ومن بين أعراض المرض الأولية الإصابة بحمى شديدة تفوق حرارتها، عادة، 38 درجة مئوية، وأعراض تشبه أعراض الإنفلونزا. وأُبلغ أيضاً عن إصابة بعض المرضى، في المراحل الأولية من المرض، بإسهال وتقيؤ وألم في البطن وألم في الصدر ونزيف من الأنف واللثّة. ويبدو أنّ الإسهال المائي غير الدموي أكثر شيوعاً لدى المصابين بإنفلونزا الطيور الناجمة عن الفيروسH5N1 ، مقارنة بالأشخاص الذين تصيبهم الإنفلونزا الموسمية العادية. غير أنّ نطاق الأعراض السريرية قد يتّسع، وجميع الحالات المؤكّدة لم تلتمس الرعاية جرّاء أعراض تنفسية. فقد تم، سريرياً، تشخيص حالة مريضين من جنوب فييت نام كالتهاب دماغي حاد؛ ولم تظهر على أي منهما أعراض تنفسية لدى التماسهما الرعاية. وفي حالة أخرى وقعت في تايلند، كان المريض الذي التمس الرعاية يشكو من حمى وإسهال، ولكنّه لم يكن يعاني من أي أعراض تنفسية. وكان لجميع المرضى الثلاثة المذكورين خلفية تعرّض مباشر لدواجن موبوءة.
ومن السمات الملاحظة لدى العديد من المرضى تطوّر علامات مرضية في السبيل التنفسي السفلي في المراحل المبكّرة من المرض. وتظهر على كثير من المرضى أعراض في السبيل التنفسي السفلي لدى التماسهم العلاج للمرّة الأولى.
ويُصاب المريض، استناداً إلى البيّنات الراهنة، بصعوبة في التنفس بعد حوالي خمسة أيام من ظهور الأعراض الأولى. وغالباً ما تُشاهد أيضاً أعراض من قبيل ضائقة التنفس وبحّة الصوت وكركرة الاستنشاق. ويتباين لدى المرضى إنتاج البلغم، الذي يحتوي على دم في بعض الأحيان. ولوحظ، في تركيا في الآونة الأخيرة، وجود إفرازات تنفسية ملطّخة بلون دموي. ويتطوّر المرض لدى جميع المرضى تقريباً إلى التهاب رئوي. وأُصيبت جميع الحالات الوخيمة، خلال الفاشية التي حدثت في هونغ كونغ، بالتهاب رئوي فيروسي أولي لم يستجب للمضادات الحيوية. وتشير بعض المعطيات المحدودة المتعلقة بمرضى الفاشية الراهنة إلى إصابتهم بذلك النوع من الالتهاب الرئوي جرّاء الفيروس H5N1، دون أي علامات تثبت إصابتهم بعدوى جرثومية ثانية لدى التماسهم العلاج. وأبلغ الأطباء الأتراك أيضاً عن اقتران الالتهاب الرئوي بالحالات الوخيمة؛ ولم تستجب تلك الحالات، شأنها شأن الحالات المماثلة في المناطق الأخرى، للعلاج بالمضادات الحيوية.
وسرعان ما تتدهور الحالة السريرية للمصابين بالفيروس H5N1. فقد كان متوسط الفترة الممتدة بين ظهور المرض وتطوّر ضائقة تنفسية حادة، في تايلند، ستة أيام تقريباً، إذ تراوحت بين أربعة أيام و13 يوماً. ولاحظ الأطباء، لدى الحالات الوخيمة في تركيا، حدوث ضعف في التنفس بعد ظهور الأعراض بفترة تتراوح بين ثلاثة أيام وخمسة أيام. ومن السمات الشائعة الأخرى حدوث خلل وظيفي في أعضاء متعددة، ولاسيما الكليتين والقلب. وتشمل حالات الشذوذ المختبرية الشائعة: قلّة اللمفاويات وقلّة الكريات البيضاء وزيادة نسبة ناقلات الأمين وقلّة الصفيحات بدرجة خفيفة أو متوسطة وبعض الحالات المتفرّقة من حالات تخثّر الدم داخل الأوعية.
وتوحي بعض البيّنات المحدودة بأنّ بعض الأدوية المضادة للفيروسات، مثل الأوسيلتاميفير (المعروف تجارياً باسم التاميفلو)، كفيلة بتقليص فترة تنسّخ الفيروس وزيادة احتمال البقاء على قيد الحياة، شريطة أن يتم إعطاؤها في غضون 48 ساعة عقب ظهور الأعراض. غير أنّه تم، قبل الفاشية التركية، اكتشاف معظم المرضى وعلاجهم في مراحل متأخّرة من المرض.
وبناء عليه، تظل المعطيات السريرية الخاصة بنجاعة الدواء المذكور معطيات محدودة. وقد تم، علاوة على ذلك، استحداث ذلك الدواء وغيره من الأدوية المضادة للفيروسات من أجل علاج وتوقّي الإنفلونزا الموسمية، وهو مرض أقل وخامة يدوم تنسّخ الفيروس فيه مدّة أقصر. ويتعيّن، على الفور، استعراض التوصيات الخاصة بأنسب جرعة وأنسب فترة علاجية فيما يخص الإنفلونزا الناجمة عن الفيروس H5N1، بما في ذلك لدى الأطفال. وقد بدأت منظمة الصحة العالمية، فعلاً، الاضطلاع بذلك.
وينبغي وصف دواء الأوسيلتاميفير، في الحالات المشتبه فيها، في أسرع وقت ممكن (على الأفضل في غضون 48 ساعة بعد ظهور الأعراض) وذلك للحصول على أقصى قدر من المنافع العلاجية. غير أنّه ينبغي النظر أيضاً، نظراً لارتفاع معدل الإماتة الخاص بالعدوى الناجمة عن الفيروس H5N1 وثبوت امتداد الفترة التي يستغرقها تنسّخ الفيروس في هذا المرض، في إمكانية إعطاء ذلك الدواء للمرضى الذين يلتمسون العلاج في مراحل متأخّرة من المرض.
وترد
المعلومات الخاصة بجرعات الأوسيلتاميفير الموصى بها حالياً لعلاج الإنفلونزا في الموقع الإلكتروني الخاص بالشركة التي تنتج هذا الدواء. والجرعة الموصى بها لعلاج الإنفلونزا لدى البالغين والمراهقين الذين تبلغ أعمارهم 13 عاماً فما فوق هي 150 ملغ في اليوم، يُؤخذ نصفها مرّتين في اليوم لمدة خمسة أيام. ولا يُنصح باستخدام دواء الأوسيلتاميفير لعلاج الأطفال الذين لم يبلغوا من العمر عاماً واحداً
وينبغي للأطباء، نظراً لاحتمال امتداد فترة تنسّخ الفيروس في حالات الإصابة بالعدوى الناجمة عن الفيروس H5N1، النظر في تحديد فترة علاجية تتراوح بين 7 و10 أيام للمرضى الذين لا يبدون استجابة سريرية. وقد يتعيّن على الأطباء، في الحالات الوخيمة من تلك العدوى، النظر في إمكانية زيادة الجرعة اليومية الموصى بها أو زيادة فترة العلاج، علماً بأنّ الجرعات اليومية التي تفوق 300 ملغ تنطوي على المزيد من الآثار الجانبية. وينبغي الحرص على أخذ عيّنات سريرية متسلسلة من جميع المرضى المعالجين كي يتسنى تحليلها لاحقاً بغية رصد التغيّرات الطارئة على الحمل الفيروسي وتقييم حساسية الفيروس إزاء الدواء وتقدير مستويات الدواء. ولا ينبغي أخذ تلك العيّنات إلاّ في إطار تنفيذ تدابير مناسبة لمكافحة العدوى.
وقد يتعرقل امتصاص الدواء لدى المصابين بحالات وخيمة من العدوى الناجمة عن الفيروس H5N1 أو المصابين بأعراض
معِدية معوية وخيمة جرّاء ذلك الفيروس. وينبغي مراعاة ذلك الاحتمال لدى التدبير العلاجي لأولئك المرضى.
البلدان التي تشهد حدوث حالات بشرية في الفاشية الراهنة
تم، حتى الآن، الإبلاغ عن حدوث حالات بشرية في ستة بلدان يقع معظمها في آسيا، وتلك البلدان هي: كمبوديا والصين وإندونيسيا وتايلند وتركيا وفييت نام. وظهرت أعراض المرض على الأشخاص الأولين الذين أُصيبوا بالمرض في الفاشية الراهنة، والذين أُبلغ عنهم في فييت نام، في كانون الأول/ديسمبر، غير أنّ إصابتهم بالعدوى الناجمة عن الفيروس H5N1 لم تتأكّد حتى 11 كانون الثاني/يناير 2004. وأبلغت تايلند عن حالاتها الأولى في 23 كانون الثاني/يناير 2004. وتم الإبلاغ، في الثاني من شباط/فبراير 2005، عن حدوث أوّل حالة في كمبوديا. وبعد ذلك أكّدت إندونيسيا حدوث أوّل حالة فيها في 21 تموز/يوليو. وتم، في 16 تشرين الثاني/نوفمبر، الإبلاغ عن حدوث أوّل حالتين في الصين. وتأكّد حدوث الحالات التركية الأولى في الخامس من كانون الثاني/يناير 2006، وتبعه الإبلاغ عن أوّل حالة في العراق في 30 كانون الثاني/يناير 2006. وتزامن حدوث جميع الحالات البشرية مع وقوع فاشيات من إنفلونزا الطيور بين الدواجن جرّاء الفيروس H5N1 الشديد الإمراض. وتُعد فييت نام، حتى الآن، البلد الأشدّ تضرّراً من العدوى، فقد شهدت حدوث ما يزيد على 90 حالة بشرية.
وأدّى أكثر من نصف الحالات المؤكّدة مختبرياً، إجمالاً، إلى الوفاة. ولا يزال المرض الذي يحدثه فيروس إنفلونزا الطيور H5N1 لدى البشر من الأمراض النادرة، غير أنّه مرض وخيم لا بد من مراقبته ودراسته على نحو دقيق، وخصوصاً بسبب قدرة الفيروس المسبّب له على التحوّل بشكل يمكنه إحداث جائحة.