يمثل الدواء الدقيق نقلة نوعية في علاج الأمراض الوراثية النادرة، إذ بات تشخيص الأمراض يعتمد على البنية الجينية بدلًا من الأعراض الظاهرة، في تحول تقوده التقنية الحيوية، ذلك الحقل العلمي الذي يُوظّف الكائنات الحية وخصائصها الجزيئية لتحسين صحة الإنسان، وجودة الحياة، واستدامة الموارد.
لم تعد التقنية الحيوية رفاهية علمية، بل أصبحت ركيزة للسيادة الصحية والأمن الدوائي. ولهذا السبب، وضعت المملكة التقنية الحيوية ضمن أولوياتها الإستراتيجية، حين أطلق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- في 13 رجب 1445هـ الموافق 25 يناير 2024، الإستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية، كخارطة طريق شاملة لتحويل المملكة إلى مركز عالمي في هذا القطاع الحيوي بحلول عام 2040.
وجاءت مشاركة المملكة في مؤتمر "BIO" الدولي للتقنية الحيوية 2025 -المقام في مدينة بوسطن الأمريكية، الحدث الأكبر عالميًا في مجال التقنية الحيوية، ضمن أعمال جناح الوفد السعودي المتكامل بقيادة وزارة الصحة، وبمشاركة 25 جهة.
ويمثل هذا التمثيل الوطني الموحد لمنظومة التقنية الحيوية السعودية انطلاقة جديدة للمملكة على الساحة العالمية، بصفتها مركزًا ناشئًا ومؤثرًا في هذا المجال، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030 والإستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية.
ويعكس الاستثمار السعودي في التقنية الحيوية رؤية صحية شاملة تضع الإنسان في مركزها؛ إذ تفتح هذه التقنيات المتقدمة آفاقًا دقيقة لتشخيص الأمراض وتطوير علاجات مخصصة ترتكز على البصمة الجينية لكل فرد، بما يمهّد لعصر جديد في الطب الشخصي.
ويُعد مرض السرطان من أبرز التحديات الصحية التي تساهم التقنية الحيوية في مواجهتها، من خلال الكشف المبكر، وفهم الطفرات الجينية المسببة له، وتصميم أدوية وعلاجات مناعية تستهدف الخلايا السرطانية دون المساس بالخلايا السليمة، مما يُحسن فرص الشفاء، ويقلل من الآثار الجانبية.
كما تلعب هذه التقنيات دورًا محوريًا في الوقاية من الأمراض غير المعدية والحد من انتشارها قبل أن تتفاقم، إضافة إلى تعزيز الأمن الغذائي عبر تطوير بذور محسّنة مقاومة للآفات والتغيرات المناخية، وتوفير مياه أكثر نقاءً وسلامة، بما ينعكس إيجابًا على الصحة العامة وجودة الحياة.
تركز الإستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية على أربعة توجهات إستراتيجية رئيسة هي توطين صناعة اللقاحات، والتصنيع الحيوي للأدوية، وأبحاث الجينوم والعلاج الجيني، وتحسين الزراعة عبر التقنية الحيوية. ويحمل كل مجال من هذه المجالات أثرًا ملموسًا على صحة الإنسان، واقتصاد الدولة، واستدامة الحياة.
وفي جانب التوظيف وتمكين الكفاءات، تُبرز الإستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية التزام المملكة بتعزيز القدرات البشرية الوطنية، حيث تهدف إلى توفير أكثر من 11 ألف وظيفة نوعية بحلول عام 2030، ترتفع إلى 55 ألف وظيفة بحلول عام 2040.
ويأتي هذا التوجه انسجامًا مع رؤية المملكة 2030 نحو تنويع الاقتصاد، وتوطين القطاعات الحيوية، وتمكين الكفاءات الوطنية من الانخراط في وظائف نوعية متقدمة، بما يُسهم في بناء اقتصاد وطني قائم على الابتكار والمعرفة، ويعزز تنافسية المملكة إقليميًا ودوليًا.
وتقود وزارة الصحة هذه التحولات من خلال منظومة صحية متكاملة، حيث شاركت في مؤتمر BIO جهات عدة، منها مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (كاكست)، والهيئة العامة للغذاء والدواء، وهيئة التخصصات الصحية، وهيئة الصحة العامة (وقاية)، والشؤون الصحية بوزارة الحرس الوطني، ومركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية (كيمارك)، وجامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية (كاساو).
وعرضت المملكة تجاربها الرائدة في أبحاث الجينوم، والذكاء الاصطناعي في المجال الصحي، وتطوير العلاجات الجينية، وتوطين صناعة اللقاحات. كما شهد الحدث إطلاق "مسرعة وزارة الصحة لشركات التقنية الحيوية" بالتعاون مع "BioLabs"، في خطوة تؤسس لجيل جديد من الشركات الوطنية الناشئة القادرة على تقديم حلول صحية نوعية للعالم.
وفيما تواصل المملكة خطواتها الطموحة نحو الريادة في قطاع التقنية الحيوية، فإن ما تقدّمه لا يُعد مجرد إنجاز علمي أو استثمار اقتصادي، بل هو التزام أخلاقي ورؤية إنسانية تسعى إلى حماية الحياة، وتحسين جودة المعيشة، وتحقيق التوازن بين التقدم التقني واحتياجات الإنسان.
ويُعد حضور المملكة في مؤتمر "BIO 2025" إشارة دالة إلى أن التقنية الحيوية أصبحت جزءًا من هوية وطنية جديدة تؤمن بأن الصحة، والابتكار، و��لمعرفة، هي حقوق يجب أن تكون في متناول الجميع. ومع هذا الالتزام المتجدد، تتجه المملكة نحو بناء مستقبل تنافسي ومستدام، يضع الإنسان أولًا، ويجعل من التقنية الحيوية جسرًا نحو "مجتمع حيوي" و"اقتصاد مزدهر"، كما أرادت رؤية المملكة 2030.